الخميس، 18 يونيو 2009

معلم اليوم وهيبته المفقودة ....


يشتط البعض كثيراً عند الحديث حول مشاكل التعليم العام، والتدني الواضح له في العقدين الأخيرين، فينسبون أسباب ذلك كله إلى المعلم، الذي يشكل العمود الفقري والدينمو المحرك لمسيرة التعليم.. ويضيف هؤلاء بأن المعلم لم يعد كما كان، بعد زوال هيبته ومكانته.
هؤلاء البعض ينسون عن جهل، أو يتناسون عن عمد، أن هذا المعلم جزء من هذا المجتمع، وأن التغيير السلبي الذي طرأ على شخصيته ومكانته، ما هو إلا إفراز طبيعي لتغير المجتمع من حوله بكل فئاته وقطاعاته، وتغير نظرته إلى الأشياء من حوله.. فإذا نظرنا إلى الطبيب مثلاً بنفس النظرة المتجنية التي ننظر بها إلى المعلم، لوجدناه يختلف كثيراً عن طبيب الأمس الإنساني الرحيم، الذي لم تكن المادة تشكل لديه هماً، ولا هاجساً.
ونظرة أخرى إلى شرطي اليوم، الذي ما عاد يهابه أحد.. أين هو من شرطي الأمس المتجهم الوجه الصارم الملامح والقسمات، الذي كان مجرد السير معه في الشارع سبباً كافياً لإثارة فضول الناس، وفغر أفواههم.
والنتيجة نفسها سنصل إليها عند النظر إلى موظف الحكومة – في أي مصلحة كانت – وتلك المكانة الرفيعة التي كان يحظى بها لدى المجتمع.. أين هو؟ وأين مكانته ؟؟.. بل أين ذلك التاجر الذي كان يتلهف على البيع له ولو بالتقسيط المريح والدين المؤجل إلى آخر الشهر؟؟
وهكذا نجد أن التغيير قد أصاب المجتمع كله بجميع فئاته: معلمين، مهندسين، تجارًا، أئمة مساجد .. الخ وتبدلت نظرة المجتمع تجاه أفراده، وانقلبت معايير التقويم انقلابا كاملاً، فما عادت الشهادات تجدي، بل الأمر كله لما يملكه الفرد من مال وعقار.
وما دام الأمر كذلك، فلا موجب إذًا لإلقاء اللوم كله على عاتق المعلم، قائلين: إنه وحده الذي تغير، وننسى أنه ضحى بالكثير، وما زال يضحي، ولا ينتظر مردودًا، ويعطي، ولا يأخذ، ويضيء، ولا يحرق.. بل يكاد يكون هو موظف الدولة الوحيد الذي يحافظ على مواعيد عمله دخولاً وخروجاً، ولا يضيع وقت الحكومة في "الوناسة" وأكل السندوتشات، وحل الكلمات المتقاطعة.. ليس ذلك فحسب، بل إن المعلم يقتطع من وقت راحته في مدرسته، أو في بيته، لتصحيح كراسات تلاميذه وتحضير دروس اليوم التالي..
أما وقد تغيرت نظرة المجتمع والطالب تجاه المعلم تغيراً كبيراً، فلا بد من وجود أسباب، نورد بعضها فيما يأتي:
1- انتشار وتعدد وسائل الإعلام من صحف وإذاعة وتلفاز، وانفتاح الطالب على العالم الخارجي، والوعي المكثف الذي عمّ المجتمع من جراء ثورة المعلومات. هذا بالإضافة إلى التطور الهائل الذي حدث في شتى مناحي العلوم الإنسانية والتكنولوجية في السنوات الأخيرة، وصاحب ذلك كله قصور بالغ، وجمود رهيب ومخيف في المناهج الدراسية. فلم يعد طفل اليوم يقتنع "كيف هربت فاطمة السمحة من الغول، ولا يصدق أن زيدان كان كسلاناً، أو أن حسن كان مجتهدًا، وهو يشاهد في قنوات أنشئت خصيصاَ له كيف تقاوم سلاحف النينجا قوى الشر في كوكب الإثارة والغموض، ويفهم ويتجاوب مع قصص الجريمة والخيال العلمي.
2- هذه الأجهزة الخطيرة تقدم المعلومة للطالب بطرق متقدمة جداً (مباشرة، وغير مباشرة) مدعمة بالصور والرسوم المتحركة، الأمر الذي جعل الطالب لا يثق ثقة عمياء في المعلومة التي يتلقاها من معلمه حتى يؤكدها له مصدر آخر! وبالتالي يصبح المعلم مصدراً ثانوياً للمعلومة، يمكن الاستغناء عنه بسهولة. وأخطر من ذلك كله، أنه صار في مقدور الطالب تقويم معلمه، حسب رؤيته، بل رغبته.. فهذا الأستاذ ممتاز ومتمكن في مادته، وذاك لا يعرف طريقة التدريس، وثالث كذا وكذا.. .. الخ
3- بعض الأفلام والمسلسلات تسهم مباشرة في تهميش وتمييع شخصية المعلم، بإظهاره بمظهر الإنسان العادي الذي يحب ويعشق ويهفو قلبه لمحبوبته، ثم يرتجف هلعاً أمام مديره و ..و ... و .. الخ الأمر الذي خلق قناعة تامة لدى الطالب مفادها أن معلمه ما هو إلا فرد عادي مثل كل الناس، فسقطت بذلك هيبته واحترامه، وزالت هالة القداسة التي أحاطت به زمناً.
4- تدني الوضع المادي للمعلم اضطره إلى الاتجاه إلى التجارة بالدروس الخصوصية والكورسات، أو ممارسة مهن أخرى ليس لها أدنى صلة بالتدريس، كالتجارة والسمسرة، بعد أن صار المجتمع ينظر إلى المعلم باعتباره معدم الجيب، وخاوي اليدين، في زمن أصبحت فيه المادة تمثل كل شيء.
5- ضيق فرص العمل الحكومي جعل من التدريس مهنة من لا مهنة له، فلجأ إلى التدريس الكثيرون من مختلف التخصصات، زراعة – قانون – آداب – بيطرة ... الخ. ودخلته بذلك عناصر غير مؤهلة (نفسياَ) للقيام بأدبيات وسلوكيات هذه المهنة، وأصبح المعلم من هؤلاء لا يتردد في إبداء ضجره وتأففه من واقعه المادي أمام طلابه.
6- ظروف الحياة وتعقيداتها زادت من فرص احتكاك الطالب بالمعلم خارج أسوار المدرسة، فوقف الطالب مع معلمه في صف واحد أمام المخبز، وجلس بجواره في المواصلات العامة، أو استخدم المواصلات أمام طالبه الذي يركب سيارة فارهة، مما ترتب عليه ضيق الفجوة الموجودة بينهما، فزال بذلك حاجز نفسي مهم، كان يرتقي به المدرس لدى طالبه.

فيا أيها البعض، لا تظلموا المعلم بالتقليل من دوره وشأنه.. وكفاه ما يجده من عنتٍ ومشقة في التنقل المستمر بين عناوين الأوطان، من مدن وقرى وبادية، لينهض بواجبه، ويؤدي رسالته السامية. ولا تطلبوا منه أن يكون ملاكاً قبل أن يتم:
· تعديل المناهج والمقررات الدراسية، لتواكب التطورات العلمية الجديدة.
· تحسين الوضع المعيشي للمعلم، حتى لا يضطر إلى ممارسة أعمال ومهن أخرى تصرفه عن دوره الأول.
· التمحيص والتدقيق في إجراء المعاينات عند تعيين المعلمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق